((( الحلقة الثانيـــــة)))
الطالب: يا أستاذ قد يقول القائل: إنّ هؤلاء الذين نزلت فيهم هذه الآيات كانوا يعبدون الأصنام والأوثان، وأما بعد ظهور الإسلام، فإن الناس أصبحوا يلجأون إلى الأولياء والصالحين الذي أطبقت الأمة على فضلهم وصلاحهم؟
الشيخ: ليس الأمر كذلك بُنَيّ، فإنّ أوّل ما دبّ الشرك في أهل الأرض، إنما كان بسبب الغلوّ في الأولياء والصالحين، أخرج البخاري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله
عنهما : (صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أمّا وُدّ كانت لكَلْب بدَوْمة الجندل، وأمّا سُواع كانت لهذيل، وأمّا يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجوف عند سبأ، وأمّا يَعُوق فكانت لهمدان، وأمّا نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تُعْبَد، حتى إذا هلك أولئك وتنسّخ العلم عُبدت).
بل نصّ الله عز وجلّ في كتابه على أن بعضهم أشرك بالله ملائكته، وبعضهم أشرك به عيسى ابن مريم عليه السلام وأمّه، كما في قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} (سبأ40 : 41 )، وقوله: {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (المائدة116 : 117 )، بلّ نصّ سبحانه في كتابه الكريم أنّ المشركين كانوا يدعون ويتقربون إل أناس صالحين، هؤلاء الصالحون هم أنفسهم كانوا يتقرّبون إلى الله، بل يتنافسون أيّهم أقرب إلى الله، قال تعالى مبيّنا هذه الحقيقة: {أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً}(الإسراء : 57 ).
الطالب: جزاك الله خيرا يا شيخ فقد أوجزت وأوضحت، ولكن إذا قال القائل: إنّ قوم نوح ومشركي العرب وإن تقرّبوا إلى أناس صالحين، لكن قصدوهم للعبادة، أما نحن فلسنا نقصدهم للعبادة بل نرجو بركتهم، وفضلهم، فهل كلامه هذا صحيح؟
الشيخ: أي بنيّ قائل هذا الكلام لا يخلو من أحد احتمالين لا ثالث لهما:
* إما أن يكون مكابرا معاندا، يعلم الحق ويجحده، فهذا ليس لنا معه حديث، لأنّ الله يقول: {أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} (النساء : 88 )، وقوله تعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} (الروم : 29 )، وقال سبحانه لنبيّه صلى الله عليه وسلم:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (القصص : 56 ).
* وإمّا أن يكون جاهلا، فنسأله: أليس الإنسان إذا سجد لله: كما قال تعالى:{فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} (النجم : 62 )، وذبح لله: كما قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (الكوثر : 2 )، وقوله: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الأنعام : 162 ) ، وذكر الصلاة في الآيتين يتضمّن ذكر السجود، إذ أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد كما قال صلى الله عليه وسلم، وإذا نذر لله سبحانه: امتثالا لقوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} (الإنسان : 7 )، وطاف ببيت الله جلّ وعلا، لقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (الحج : 29 )، ودعا الله أن يكشف عنه كربته استجابة لحثّ الربّ سبحانه: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ}(النمل : 62 )ويشفي مرضه: قال تعالى عن أيوب عليه السلام في المرض: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ}(الأنبياء 83: 84 )، ويرزقه الولد: قال تعالى عن زكريا عليه السلام في قضية الولد: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}(الأنبياء 89: 90 )، وحلف بالله: قال مالك رحمه الله: أخبرنا نافع عن عبد الله بن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع عمر بن الخطاب وهو يقول: ولا وأبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله ثم ليبرر أو ليصمت) أخرجه في الموطأ. وورد عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا: ( من حلف بغير فقد كفر أو أشرك) حسنه الترمذي وصححه الحاكم وابن حبان، أليس هو بذلك يعبد الله الواحد الأحد؟!
فلا شكّ أنّ جوابَه سيكون: بلى، صرف هذه الأمور لله عزّ وجلّ من العبادة، بل هي من أجلّ العبادات، فنقول له: كذلك صرفها لغيره كائنا من كان ستكون شركا بالله عزّ وجلّ، ولو لمَلَكٍ مقرّب أو نبيّ مرسل، فضلا عن الأولياء والصالحين.
الطالب: يا أستاذ! هل يعني أن من وقع في هذا الشرك فقد خرج من الإسلام؟
الشيخ: أي بنيّ! إنّما نعني بقولنا لا تنفعه لا إله إلا الله، وقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، أنّه وقع في ناقض من نواقض الإسلام، كمن سبّ الله، أو رسولهصلى الله عليه وسلم، أو استهزأ بشيء من دين الله، أو أنكر معلوما من الدين بالضرورة، أو استحلّ ما حرّم الله، فيخرج بذلك من دائرة الإسلام، لكنّه قولٌ يُطْلَقُ على الفعل بصرف النظر عن عين الفاعل، ليعلم الناس الفرق بين المعاصي التي لا يخرج من وقع فيها من دائرة الإسلام كشرب الخمر، والزنى، وشهادة الزور إلا إذا استحلّها، وكذا الشرك الأصغر الذي لا يخرج من تلبّس به من دائرة الإسلام، وبين المكفرات والشركيات التي تُخْرِجُ العبدَ من دائرة الإسلام، وأما أعيان الأشخاص فلا يلحقهم وصف الكفر الأكبر والشرك الأكبر، إلا إذا توفرت شروط التكفير، والتي منها أن يكون العمل دلّ الدليل الشرعي على أنه من نواقض الإسلام، وانتفت موانع التكفير كالإكراه، والتأويل، والجهل الذي يعذر بمثله صاحبه، فالقصد الأكبر هو التحذير والزجر رحمة بالعباد، فأهل السنة أعلم الناس بالحق، وأرحم الناس بالخلق.
الطالب: شيخي الكريم! لقد ذكرت في غضون كلامك المتقدّم الشرك الأصغر والشرك الأكبر، فهل ممكن أن تذكر مستند هذا التقسيم، وتضرب لي مثالا على ذلك؟
الشيخ: لا بأس بنيّ، عن مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ اَلشِّرْكُ اَلْأَصْغَرُ: اَلرِّيَاءُ )) قال الحافظ ابن حجر: أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ،). فتنصيصه صلى الله عليه وسلم على الشرك الأصغر يستدلّ به بدَلالة المفهوم على وجود الشرك الأكبر، ومن ذلك بنيّ أن يحلف العبد بغير الله، ويكون هذا الحلف جاريا على اللسان من غير قَصْدِ تعظيم المحلوف به. كما ورد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند مالك في الموطّأ، وقد تقدّم، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع عمر بن الخطاب وهو يقول : ولا وأبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله ثم ليبرر أو ليصمت) ، فحَلِفُ عمر رضي الله عنه بأبيه من هذا القبيل، إذ لو كان من قبيل الأكبر لأمره صلى الله عليه وسلم أن يجددّ إسلامه، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.....(( يتبع بإذن الله ))...